البستاني والمربي

[زهرة اللوتس]

البستاني والمربي

( كن كالبستاني) كم أعجبتني هذه المقولة عندما سمعتها في سياق الحديث عن التربية وأساليب المربين، وحتى لا تظل حبيسة ذهني أحببت أخي القارئ أن تشاركني في تأملها.
لا شك أنّ البستان هو ما يكون حائطاً فيه نخيل متفرقة تمكن الزراعة وسط أشجاره، أو يطلق على الأشجار عموما وهو معرّب. وذكره صاحب اللسان بأنه الحديقة.
إذن هو حديقة بها مجموعة من الأشجار المختلفة شكلا ونوعا وطبيعة وثمرة وطعما، والبستاني هو المتعهد للبستان بالعناية والرعاية.

أرأيت لو عطلت أرضك من غرا س ما الذي تجني من البستان

يحرثُ البستاني ويبذر ويسقي ويسمّد ويقلّم ويرش ويلاحظ ويفكّر وينظر ويراقب ويستفسر ويناقش من له خبرة في مجال البستنة، وهذا كله من أجل أن يبدو بستانه بأحسن ما يمكن أن يكون عليه، يسرّ الناظرين ويبهج نفوس الزائرين، ويجني ثمار غرسه.
و هذا العمل يتطلب جهدا كبيرا من حيث انتقاء أفضل البذور وتعهدها بعد ذلك بالسقي حتى تترعرع، والحاجة إلى العناية والمتابعة المستمرة من النظر والملاحظة، حتى إذا ما لاحظ تغيرا قد طرأ على إحدى أشجار بستانه فإنّ ذلك يقلقه ويبدأ في البحث عن الأسباب لاتخاذ الإجراء المناسب حفاظا على تلك النبتة من العطب، وحتى لا يقود الخطر الصغير إلى الخطر الفادح الذي يستعصي على العلاج وقد ينتشر المرض في سائر أشجار ونباتات البستان بعد ذلك.
إّ نّ مثل المربي كمثل البستاني، فالأدوار والمهام التي يقوم بها المربي تتشابه في شكلها الموضوعي مع أدوار البستاني، فالمربي يحرص على أن يغدو أبناؤه قرة عين له علما وأخلاقا وسلوكا ولذلك يضع تصورا لما يحب أن يكونوا عليه، ويرسم الخطط، ويتابع بعين المراقب الأمين كل التغيرات التي تقع في محيط أسرته فردا فردا من حيث نموهم الجسمي والعقلي والروحي والعاطفي والاجتماعي.
وإذا ما رأى خللا بادر بإصلاحه معتمدا على التصور الكلي الذي سبق أن رسمه، كما أنّه يحرص كحرص البستاني على حجب دخول أي نبتة معطوبة تنقل العدوى، فهو بذلك يحرص على إرشاد أولاده في اختيار الصحبة الصالحة المعينة على الخير، الصحبة الايجابية الفاعلة حاملي المسك كما شبههم الرسول صلى الله عليه وسلم، وتجنب رفقاء السوء الدالين على الشر الآمرين بالمنكر الذين يضرون ولا ينفعون السلبيين المتشائمين الذين شبههم الرسول صلى الله عليه وسلم بنافخ الكير، وإن كان للأولاد حرية اختيار الصديق لكن صغر السن وضحالة التجارب تحتم أن تكون هذه الحرية موجهة من قبل المربي دونما إلغاء لشخصية الابن.
وكما أن البستاني يُقلّم من حين لآخر شجيرات بستانه؛ لإزالة الزوائد غير الضرورية والتي قد تستهلك جزءا من الغذاء مما يؤثر على النمو السليم للشجيرة فكذلك المربي يراقب كل ما يعتري أولاده من تغيرات ضارة فيسارع إلى معالجتها قبل أن تستفحل وتستقوي فتصبح عادة راسخة يصعب استئصالها..

قَد يَنفَعُ الأدبُ الأطفالَ في صغرٍ/ وَلَيسَ يَنفَعُ بَعد الكَبرَةِ الأَدَبُ

إِنَّ الغُصونَ إِذا قَوَّمتَها اِعتَدَلَــــت/ وَلا يَليــــنُ إذا قَوَّمتَهُ الخَشـــبُ

وإذا ما رأى البستاني مرضا غريبا في أحد أشجار بستانه يصعب فهمه ويستعصي سبل علاجه فإنّه يسأل ذوي الاختصاص في طرق العلاج الناجعة إذ لا يمكن أن يُلم مع خبرته بكل ما قد يعتري بستانه من أمراض وعلل، وكذلك المربي وإن كان من ذوي الخبرة والدراية إلا إنّه لا يستغني في كل أحواله عن استشارة ذوي الاختصاص بالتربية أو الاطلاع على العلوم المعينة في علاج بعض الظواهر السلوكية التي تظهر على أبنائه وهو وإن حاول مع عدم درايته فإنّه قد يضر الأسلوب الذي يتبعه أو لا يحقق النجاعة في المعالجة.
وأخيرا لا تعدم اخي القارئ أمثلة كثيرة على وجوه الشبه بين الدور الذي يقوم به البستاني والدور الذي يمارسه المربي فهناك نقاط تقاطع بينهما وكلاهما بحاجة إلى الصبر والمتابعة المستمرة واستشارة ذوي الاختصاص لتحقيق أهدافهم.
كما أنّ هناك عاملا أكثر أهمية مما سبق وهو ( المتعة ) في تأدية الدور بمعنى أنّ البستاني ما كان لينجح لو أنّه يكره عمله ويتضجر من ممارسته لمهامه، فكذلك المربي إذا ما كان يشعر أنّ التربية عبئ ثقيل على كاهله يمارسها مجبرا فإنه لن يقوم بالدور على الوجه المطلوب ولن يتأنى في اختيار الأساليب التربوية الناجحة.
وقبل ذلك وبعده هو الإخلاص لله سبحانه وتعالى في أداء تلك المهام، وطلب العون والتوفيق منه عزّ وجل.
وفقنا الله جميعا في تربية أبنائنا تربية صالحة تكون لنا قرة عين في الدنيا واستمرارا للأعمال الصالحة بعد رحيلنا عن هذه الدنيا( وولد صالح يدعو له)
منقول